بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

شذرات تربوية معاصرة /بقلم الشاعر/ عبدالحميد دلعو

شذرات تربوية معاصرة .... قلم #راوند_دلعو

تحليل للكارثة التربوية الأكبر التي تعاني منها بلادنا.

( التّلَقِّي باللغة الأم أرقى أنواع التَّلقي )

اللغة الأم هي اللغة التي يكتسبها الطفل من أبويه خلال السنوات الأولى من حياته ، و هي اللغة التي يتشكل بها وعيه فيفكر بها و ينطق بها بلا عناء ، كما يستحضر تراكيبها بشكل آني مباشر و يستطيع التعبير من خلالها عن ( جميع )  المواقف و الظروف و الأفعال و الأسماء و الرغبات و المشاعر بلا تفكير و بلا عناء و بشكل بديهي عفوي و تلقائي . 

فهي اللغة التي تنقذف في دماغه آنياً لأنها عششت في رأسه منذ الصغر و نسميها (اللغة الأم) .

فاللغة الأم في الشرق الأوسط هي اللهجة العامية المحكية و ليست اللغة العربية الفصحى !!!!! 

 ففي سوريا مثلا تلعب اللهجة السورية المحكية دور اللغة الأم ، و في المغرب اللهجة المغربية و في مصر اللهجة المصرية و هكذا في جميع الدول الشرق أوسطية الناطقة بالعربية رغم تعدد أعراقها.

فاللغة العربية الفصحى ليست اللهجة الأم بأي حال من الأحوال ، لأنها تختلف تماما عن اللهجات المحكية بنسبة 80% تقريباً ، سواء من حيث المصطلحات أو القواعد أو طريقة التركيب، و علينا أن نعترف بموضوعية و حيادية أن طفلنا يكتسب اللهجة العامية من أبويه لا اللغة العربية الفصحى و أن اللهجة العامية تبتعد عن اللغة الفصحى بمرور السنين ، فإن كنا نجد قاعدة مشتركة بينهما بمساحة 20% اليوم ستتضاءل هذه القاعدة لتتلاشى مع الزمن و تصبح كل لهجة عامية عبارة عن لغة مستقلة تماماً عن العربية الفصحى الآيلة للزوال و بالتالي فاللغة العربية الفصحى باتت لغة أجنبية بالنسبة حتى للعرب سكان شبه جزيرة العرب ، حيث أن لهجاتهم الخليجية آخذة بالابتعاد عن العربية و مفارقتها للأبد !

تنص القاعدة التربوية على أن اللغة التي يجب علينا تعليم الطفل بها بحيث يكتسب المعلومة و يفهمها بأسهل طريقة و بسلاسة بغية الحصول على جيل مبدع خلاق هي اللغة الأم .... فالتلقي باللغة الأم هو أرقى و أحسن أنواع التلقي إذا أردنا الحصول على جيل متفاعل مع المعلومة بطريقة خلاقة ، و ذلك لأن اللغة الأم تفهم بلا ترجمة و بناء عليه تنصرف كل الإمكانيات العقلية عند الطفل لخدمة عملية التفكير و التطوير دون أن نستهلكها بالترجمة التي تعتبر عائقاً كبيراً في وجه اكتساب المعلومة.

الفكرة التي أريد أن أوضحها من هذه المقالة الآن هي أن الأمر الذي يقتل العلم و يؤخر التعليم في عالمنا الناطق باللغة العربية هو أن المناهج الدراسية مكتوبة بغير اللغة الأم !!! فمناهجنا مكتوبة باللغة العربية الفصحى التي وضحتُ آنفاً بأنها ليست اللغة الأم ، فاللغة الأم  التي يفترض أن تكتب بها مناهجنا و يتعلم الطفل من خلالها هي اللهجة العامية لكل دولة !!

 و هذه مفارقة قاتلة للتعليم في بلادنا ففي حين أن اللغة التي يكتسبها الطفل منذ الصغر هي اللهجة العامية ( التي تعتبر لغة أخرى مخالفة للفصحى بنسبة كبيرة ) يدخل طفلنا المدرسة لينصدم بلغة أخرى مختلفة تماما عن لغته الأم و هي اللغة العربية الفصحى !!

أما الطفل البريطاني أو الأميركي مثلا فيكتسب لغته الانكليزية منذ الصغر من أبويه ثم يدخل المدرسة ليجد نفس اللغة التي تعلمها من أبويه موجودة في الكتب المدرسية ....
يجدها تقريباً نسخة طبق الأصل بكلماتها و تراكيبها و سبكها و قواعدها .... الخ ... فالكتاب المدرسي في بريطانيا و الدول الناطقة بالإنكليزية مكتوب بنفس لغة الأبوين المحكية تقريباً مع فروقات طفيفة لا تكاد تذكر.

 بينما نجد أن الطالب في عالمنا الناطق بالعربية يدخل للصف الأول الابتدائي ليتفاجأ بلغة مختلفة كليا عما اكتسبه من أبويه ... فهو يعرف كلمة ( بدي_عامية _)  ولا يعرف ( أريد _فصحى_) و يعرف ( باوع _ عراقي_)  و لايعرف ( انظر _ فصحى _) و يعرف ( شيل _ مصرية)  ولايعرف ( احذف _ عربية)  وهكذا...... 

فتنخفض نسبة الاستيعاب القرائي مابين 60 إلى 90 بالمئة من النسبة الطبيعية وهنا يهوي جيل كامل في متاعب صعوبات التعلم نتيجة تلقيه بلغة ليست لغته الأم !!! 

و بالتالي فطفلنا مطالب بتعلم اللغة العربية الفصحى في سن متأخر (ست سنوات ) _ و هذا يجعلها لغة أجنبية لأنها لم تكتسب منذ الولادة كما هو شأن العامية _  ... كما أنه مطالب بتعلم اللغة الإنكليزية كعبئ إضافي ،  فصرنا أمام ثلاث لغات مختلفة (لغة أم + لغتان أجنبيتان الفصحى و الإنكليزية) حيث يتحتم على طالبنا تعلمها و  القراءة و التفكير بها و هو أمر في غاية الإعاقة للجيل ، لأنه يستهلك عقل الطالب بأمور لا علاقة لها بفحوى العلم فاللغة بالنهاية وسيلة و ليست غاية بحد ذاتها ، بل العلم هو الغاية و لكن هذه الغاية باتت مشروطة بتعلم عدة وسائل (لغات) للوصول إليها مما يجعلها صعبة المنال.

السبب في ذلك التأخر هو أنه عندما يتلقى طفلنا المعلومة بغير لغته الأم ينفق ما يقارب نصف الطاقة الفكرية في عملية الترجمة ، أي أن استيعابه لن يكون آنياً بل يجب عليه أن يترجم أولاً ثم يستوعب ما ترجمه .... في حين يستثمر المتلقي باللغة الأم هذه الطاقة في عملية التفكير الإبداعي مباشرة لأنه ليس بحاجة إلى صرف الطاقة العقلية بالترجمة. وهنا نلاحظ بوضوح خسارة المتلقي بغير اللغة الأم لكثير من ملكاته و إمكانياته العقلية .....

 بل إن التلقي بغير اللغة الأم يؤدي إلى هبوط المستوى العام للتفكير والذكاء المستثمَر فلا يتم استثمار الملكات و الإمكانيات العقلية بشكل كامل بسبب عدم وضوح الرؤية الأفقية في النص المترجم وضوحها في حالة التلقي بالأم ... لذلك نجد أن الطالب يقرأ النص الأجنبي عدة مرات ليحقق نسبة فهم تقارب تلك التي يحققها المتلقي بلغته الأم من أول قراءة.

 كما أن صورة النص المترجم هي صورة شوهاء بنسبة 5% على أقل تقدير مها كانت الترجمة بارعة و مهما كان الطفل ماهراً باللغة الأجنبية التي يتعلم بها ، فما بالك إذا كان المطلوب منه ترجمة فورية كما هي الحال في عقل الطفل المتلقي بغير لغته الأم !! مما يجعل قدرة الطفل على استخدام ملكاته بطلاقة أمراً صعباً....  

مشكلة تعاني منها كل الأجيال في دولنا الشرق أوسطية ... 

ما الحل !!! 
برأيي يكمن الحل بطريقتين : 

 1) إعادة كتابة المناهج باللهجات العامية ( حل منطقي ولكن يقسم المنطقة أكثر و يضعفها ويقضي على العربية التي تعتبر أهم مكتسبات و عوامل قوة الشرق الأوسط ) و لكن للأسف هذا هو الحل الذي ستضطر دولنا اللجوء إليه إن لم نطبق الحل الثاني.

2) إنشاء جيل ناطق باللغة العربية الفصحى و اللغة الإنكليزية كلغة أم .... جيل لا يعرف معنى كلمة ( ليكو _ النهاردة _ مالتي _ مقدرش _بدي _ كلش _ يمديني ) .... و هذا مشروع أطلقتُه منذ 4 سنوات لكنه لم ينشر بعد و سأكتب مقالة توضح رؤيتي لكيفية بعث اللغة العربية الفصحى و انتشالها من شبح الانقراض من خلال زراعتها في الألسن الحية كسليقة للجيل.

و أخيراً يجب أن نلاحظ أن جميع الدول ذات السيادة والشخصية المستقلة لا تقبل أن تعلم أبناءها إلا بلغتهم الأم لأن كل أمة تجري وراء مصلحتها و تعمل لتطوير جيلها و تسهيل عمليةالتعليم .....( الدول الغربية عموماً _ تركيا _إيران _اليابان_ الصين_ روسيا_ .... الخ)  ... 

أما دولنا فلا تلتفت لهذه الأمور فتجد طالبنا و هو مثقل بثلاث أو أربع لغات يكسِرْن ظهره (العامية_ الفصحى_ الإنكليزية_الفرنسية) 

فعلى وزارات التعليم في عالمنا الانتباه لهذه النقطة و البدء بإيجاد الحلول لهذه المشكلة التي تعمق التخلف في الجيل الذي لا يتعلم بلغته الأم المحكية.

عبدالحميد دلعو


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق