مناجاة
لِمَاذَا ذَهَبْتِ وَأَجَّلْتِ لَحَظَاتِ السَعَادَة مَعَكِ وَأَنَا الذِّي جِئْتُكِ مِنْ بَعِيدٍ لِأَسْكُنَ إِلَيْكِ بَعْضَ الزَّمَنِ؟ كَانَ خَيالُك يَتَرَاءَى لِي فِي كُلِّ عَلاَمَاتِ الطَّرِيقِ يَعِدُنِي بِلِقَاءٍ مَعَكِ حَمِيمٍ ، كَانَ خَيالُك يَغْمِزُنِي فِي كُلِّ أَعْيُنِ السَيَّارَاتِ التِّي تُقَابِلُنِي، كَانَ خَيالُك يَتَرَاقَصُ أَمَامِي فَوْقَ جَمِيعِ الأَشْجَارِ التِّي تَعْتَرِضُنِي، كَانَ خَيالُك طول الرِّحْلَةِ إِلَيْكِ يَبْعَثُ فِيَّ نَشْوَةً غَرِيبَةً تُدَغْدِغُنِي، كُنْتُ أَرَى كُلَّ الطُّرُقَاتِ مُحَدَّدَةٌ بِسُرْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلاَّ الطَّرِيقَ إِلَى قَلْبِكِ حَبِيبَتِي فَالسُّرْعَةُ فِيهِ غَيْرُ مُحَدَّدَةٍ ، فَكُنْتِ تَرَيْنَ قَلْبِي يُسَابِقُ سَيَّارَةَ الأُجْرَةِ التِّي أَرْكَبُهَا بِدُونِ حَذَرٍ، بِدُونِ وَجَلٍ...وَلَمَّا وَصَلْتُ ..هَا إِنَّكِ تَحْرِمِينَنِي مِنْ حُضُورِكِ العَجِيبِ لِأُقْذَفَ مِنْ جَدِيدٍ فِي هُوَّةِ وِحْشَةٍ لاَ قَرَارَ لَهَا تَفْجَعُنِي ، فَمَنْ سَيُؤْنِسُ وِحْدَتِي الكئيبة بَعْدَكِ؟ ، وَمَنْ سَيَمْسَحُ دَمْعَةَ قَلْبِي الثّكلى ؟، وَمَنْ سَيُرَوِّضُ هَوَاجِسِي المُخِيفَةِ المتزايدة؟، وَمَنْ سَيَنْظُرُ إِلَيَّ نَظْرَةً بَرِيئَةً تُنْقِذُني من خَوْفِي وَجُبْنِي؟، مَنْ سَيَبْتَسِمُ لِي تِلْكَ الابْتِسَامَةَ الرَّقِيقَةَ فَيَرْقُصُ أَمَامِي قَوْسُ قُزَحٍ يُبَشِّرُنِي بِأَفْرَاحٍ مُتَّصِلَةٍ ؟،مَنْ سَأَجْلِسُ إِلَيْهِ فَأُحِسَّ أَنَّ اللهَ يُجَالِسُنِي؟ ،مَنْ سَيَسْقِي بُذُورًا دَاخِلِي عَطْشَى يُهَدِّدُهَا المَوْتُ ؟،مَنْ سَيُطْفِئُ نَارًا دَاخِلِي تَتَأَجَّجُ تَتَرَنَّحُ أَلْسِنَتُهَا تُرِيدُ أَنْ تَلْحَسَنِي ؟ ، مَنْ سَيُهَدْهِدُ رَغَبَاتٍ دَاخِلِي أَسْمَعُهَا تَتَثَاءَبُ وَتَتَجَشَّأُ؟،مَنْ سَيَعْزِفُ عَلَى أَوْتَارٍ دَاخِلِي أَرَاهَا تَتَآكَلُ فَتَرْتَخِي مُتَمَاوِتَةً...أُقسِمُ لَكِ أَنَّ حُضُورَكِ أَمَامِي يُنَصِّبُنِي مَلِكًا عَلَى هَذَا العَالَمِ بِأَسْرِهِ،أَمَّا الآنَ وَقَدْ ذَهَبْتِ فَأُحُسُّ أَنِّي عَبْدٌ لِكُلِّ العَبِيدِ ...فَعُودِي أَرْجُوكِ وَلاَ تُطِيلِي الغِيَابَ لِتَفُكِّي قَيْدِي مِنْ أَسْرٍ يُقْعِدُنِي وَ يُكَبِّلُنِي.نَعَمْ أَنْتِ أَنْتِ مَنْ أُحِبُّ، وَ أَنْتِ أَنْتِ سَعَادَتِي البِكْرُ التِّي أَطْرَدَتْ عَنِّي خَفَافِيشَ البُؤْسِ والقَلَقِ ، أَنْتِ أَنْتِ الحَيَاةُ التِّي مَزَّقَتْ عَنِّي أَكْفَانًا صَفْرَاءَ أَسَرَتْنِي، أَنْتِ أَنْتِ الأَنَفَةُ التِّي أَنْقَذَتْنِي مِنْ لَحَظَاتِ الاسْتِكَانَةِ وَتَقْوِيسِ الظَّهْرِ ، أَنْتِ أَنْتِ الكَرَمُ الذِّي طَبَعَ نَفْسِي فَغَزَوْتُ قُلُوبَ الآخَرِينَ بِلاَ سَيْفٍ وَلاَ مَدْفَعٍ وَلاَ رُمْحٍ وَلاَ قَوْسٍ، أَنْتِ أَنْتِ الحُرِيَّةُ التِّي انْتَشَلَتْنِي مِنْ لبُوسِ العُبُودِيَّةِ وَالكَبْتِ، أَنْتِ أَنْتِ الكَرَامَةُ التِّي عَلَّمَتْنِي أَنْ أَدُوسَ عَلَى الخُبْزِ إِذَا مَا أُهِينَ عِرْضِي، أَنْتِ أَنْتِ السَّمَاءُ التِّي تَرْحَمُنِي إِذَا ضَاقَ بِيَ الدَّهْرُ، أَنْتِ أَنْتِ القَصِيدَةُ التِّي تُطْرِبُنِي إِذَا عَمِيَ القَلْبُ وَصَدَأَ، أَنْتِ أَنْتِ الثَّوْرَةُ التِّي تُهْدِينِي وَطَنًا بِلاَ سُجُونٍ وَلاَ قَهْرٍ، أَنْتِ أَنْتِ الخَمْرَةُ التِّي تُسْكِرُنِي إِذَا اسْتَحْجَرَتْ نَفْسِي، أَنْتِ أَنْتِ الوَتَرُ الذِّي يَعْزِفُ لِي أُغْنِيَةَ النَّصْرِ، أَنْتِ أَنْتِ الكِتَابُ الذِّي يُنْقِذُنِي مِنْ لَحَظَاتِ الفَرَاغِ وَالقَلَقِ ، أَنْتِ أَنْتِ الشِّرَاعُ الذِّي يُنْقِذُ مَرَاكِبِي مِنَ الغَرَقِ، أَنْتِ أَنْتِ الوَاحَةُ التِّي تَشْتَاقُ إِلَيْهَا نَفْسِي، أَنْتِ أَنْتِ الجَبَلُ الذِّي أَتَعَبَّدُ فِيهِ لَحَظَاتِ اليَأْسِ والقَلَقِ، أَنْتِ أَنْتِ الحُلُمُ الذِّي ظَلَّ ليالي يُرَاوِدُنِي، أَنْتِ أَنْتِ الخَبَرُ لِمُبْتَدَإٍ كَانَ يُؤْرِقُنِي ، أَنْتِ أَنْتِ المُبْتَدَأُ لِخَبَرٍ كَانَ يُحَيِّرُنِي، أَنْتِ أَنْتِ البِدَايَةُ لِنِهَايَةٍ تَفْتِنُنِي، أَنْتِ أَنْتِ النِّهَايَةُ لِبِدَايَةٍ تُعْجِبُنِي ، أَنْتِ أَنْتِ الرَّسُولُ لِرِسَالَةٍ ظَلَّتْ مُهْمَلَةٍ، ، أَنْتِ أَنْتِ العَدْلُ الذِّي سَيُنْصِفُنِي ، أَنْتِ أَنْتِ الجَمَالُ الذِّي أُرِيدُهُ أَنْ يَلْبَسَنِي، ،مَنْ أَنْتِ؟ نَعَمْ أَنْتِ النَبِيُّ لِإِلَهِ الحُبِّ الذِّي سَيَنْظُرُ إِلَيَّ فَيَرْحَمُنِي...
فَعُودِي إِلَيَّ أَرْجُوكِ سَرِيعًا فَإِنَّ الحَافِلَةَ أَرَاهَا تَقْتَرِبُ ،وَهَا إِنِّي أُعِدُّ حَقِيبَتِي لِأَرْكَبَ من جديد السَّفَرَ ، عُودِي إِلَيَّ كَيْ يَكْتَمِلَ بَدْرُ حَيَاتِي ، عُودِي إِلَيَّ كَيْ تَهْجَعَ أَوْجَاعُ قَلْبِي ، عُودِي إِلَيَّ كَيْ تُرَفْرِفَ حَوْلِي فَرَاشَاتُ الأَمَلِ ، عُودِي إِلَيَّ صُبْحًا جَمِيلاً وَنَسِيمًا عَلِيلاً ، عُودِي إِلَيَّ وَجْهًا أَسِيلاً وَخِصْرًا ضَئِيلاً، عُودِي إِلَيَّ نَخْلَةً طَوِيلَةً أَبُثُّهَا بَعْضَ أَشْجَانِي فَأَنْسَى كُلَّ أَشْجَانِي ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ سُنْبُلَةً مُمْتَلِئَةً تُشْبِعُنِي وَمُنْحَنِيَةً تُعَلِّمُنِي التَّوَاضُعَ والأَدَبَ ، عُودِي إِلَيَّ أَمَلاً يَغْسِلُنِي مِنْ هَوَاجِسِ الغَدِ المُزْدَحِمَةِ أَسْمَعُهَا تَدُقُّ بَابِي فَتُقْلِقُنِي، عُودِي إِلَيَّ نَغَمًا يَتَرَدَّدُ دَاخِلِي فَيَرْحَمُنِي مِنْ صَخَبٍ حَوْلِي يُضْجِرُنِي، عُودِي إِلَيَّ الآن دَمْعَةَ صَادِقَةً تُنْقِذُنِي مِنْ غُصَّةٍ تُهَدِّدُنِي، عُودِي إِلَيَّ الآنَ جَوَابًا وَاضِحًا عَنْ سُؤَالٍ يُحَاصِرُنِي، عُودِي إِلَيَّ الآنَ قَمَرًا مُنِيرًا يُنْقِذُنِي مِنْ ظُلْمَةِ لَيْلٍ كَئِيبٍ تُكفّنُنِي ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ كَثِيبَ رَمْلٍ أَخُطُّ عَلَيْهِ بَعْضَ أحْلاَمِي فَلاَ تُجْهَضْ ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ قَلَمًا عَنِيدًا مِدَادُهُ دَمٌ جَرَى فِيهِ حُبُّكِ واخْتَلَطَ فَانْسَابَ فِيهِ كَأَنَّهُ المَاءُ يَجْرِي، عُودِي إِلَيَّ الآنَ قُبْلَةً عَمِيقَةً تُطْفِئُ فِيَّ عَطَشًا يَسْكُنُنِي مُنْذُ أَمْسِ أَمْسِ ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ كَهْفًا أَتَعَاطَي فِيهِ كُلَّ المُحَرَّمَاتِ وَلاَ أَخْجَلْ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ سُؤالًا مِلْحَاحًا لِأَمْلُكَ مَكْتَبَاتِ التَّارِيخِ والآدَابِ وَالعُلُومِ وَالفُنُونِ وَالفَلْسَفَةِ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ مَوْجَةً عَنِيفَةً تُزَلْزِلُنِي فَأَثُورَ عَلَى مَنْ أَهَانَنِي وَعَذَّبَنِي، عُودِي إِلَيَّ الآنَ سِكِّينًا طَوِيلَةً أُقَطِّعُ بِهَا أَوْصَالَ جُبْنِي ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ طَابَعَ سُكَّرٍ فَأَيَّامِي بَعْدَكِ بَاتَتْ مُرَّةً كَالعَلْقَمِ، عُودِي إِلَيَّ الآنَ بِسَاطًا يَرْفَعُنِي إِلَى عَرْشِ الرَبِّ فَأَبُثَّهُ هَمِّي وَجَزَعِي، عُودِي إِلَيَّ الآنَ صَبْرًا جَمِيلاً يَكُونُ تَذْكِرَةً لِي إِلَى جَنَّةِ الخُلْدِ.
نَعَمْ إِنِّي أُحِبُّكِ ، أَلاَ تُصَدِّقِينِي ؟ هَاتِي إِنْ شِئْتِ جَمِيعَ الشَّهَائِدِ لِأُمْضِيهَا: إِنِّي أُحِبُّكِ.
فَارْحَمِي عَيْنًا فَقِيرَةً لَنْ تَجِدَ خَيَالاً غَيْرَكِ يُكَحِّلُهَا، وارْحَمِي دَمْعَةً صَادِقَةً لَنْ تَجِدَ غَيْرَكِ مَنْ يَفْهَمُهُا، وَارْحَمِي قَلْبًا بَرِيئًا لَنْ يَجِدَ غَيْرَكِ مَنْ يُسَامِرُهُ، وارْحَمِي خَفْقَةً لَنْ تَجِدَ غَيْرَكِ مَنْ يُطَمْئِنُهَا، وارْحَمِي أُذنًا لَنْ تَجِدَ غَيْرَكِ مَنْ يُحُدِّثُهَا، وارْحَمِي شَفَتَيْنِ لَنْ تَجِدَا غَيْرَكِ مَنْ يُدَاعِبُهُمَا.
رضا يعقوب ، تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق