عمل نثري في شكل قصصي بعنوان : ( وجعٌ أخيرٌ )
بقلمي : حامد القصري – تونس –
___________________________
كانت الشّمس الآفلة....قد تركت غشاءً من نور شاحبٍ على السّهل و المضارب الشّاسعةِ... و لم يبق من زهوتها...إلّا...لمعانٌ يخفق في البعيد على مآذن تلك القريةِ....كأنّه إشارةُ وداعٍ...يعدُ بلقاءٍ قريبٍ....
و كانت ستّةُ رهوط.....لا آنسجام في زيّهم....قد إنفصلوا عن المضارب متّجهين بعيدا.....
بعيدا _ بعيدا عن تلك القرية...التي شيّعت جثمانهم و في قلب أهلها....بعض من حقد...
و قد وقف أقوام من رحم ذات البلدة خارج بيوتهم يشيّعون بأنظارهم...أولئك الغرباء...
__ هكذا أضحوا لديهم __ رغم أنّ أنفاس الستّة أرهاط...قد شربوا من مائها و تمرّغوا في طين تربتها منذ الأزل....
حتّى تقلّص غشاء السّمس الشّاحب...و توارت الأشباح الستّ عن العيان....
لكنّ ذلك الفتى البدوي...قد إنتهى إلى نتيجة حاسمة....بعد طول ذلك الغياب...
--------------
ساخت عينا الفتى في بحر لجّي من إنهزامات المظالم...وهو لازال يذكر وقت المغيب...حين سار الستّةُ بتاريخ ذلك اليوم من الشهر الثاني...
و من بينهم..ذلك الكريم على القلب...
فترجّل بخطًى ثكلى...كمن يرغم نفسه إرغاما...و ودّعه بنظرة آسفة يملؤها حقد مضاعف لبدو بلدته المهجورة...و لازال إلى اليوم ينكر ودّها و يهجرُ أهلها...
و قد تباعدوا بعد الشّمس عن أرضها البور ..
و قد أشار لراحلته بأن تعزَمَ الرّحيلَ و لا تتوقّفَ إلا حين يحتدُّ البصر و تتوارى عن الأنظار مضارب تلك القرية الموحشة و وجوه من فيها... إلا من أمه و أبيه....
و لايزال على غيابه ذلك إلى اليوم.. حتى يجعل الله له من ذلك أمرَ فكّ عقال أخيه...
---------------
شَعُرَ الفتى بأنّ دنياه فراغا بعد رحيل أخيه..
سلوتهُ،و بعض ما تبقّى من ذلك الأمل الذي ينير حياته...ليبنيا معا مستقبلا أحلى...و يُنْسِيَا
العائلة حرارة أيّام الصِّبَى...
وبات مساؤه أشقّ من نهاره.....فلم يستطع أن يركن لحظة في تلك الرّبوع و لا أن يُصْغِيَ إلى كلام العزاء الميّت....بعد أن أوحشت جدران القرية بمن فيها....
و لم يبق في ذاكرته إلّا صورة أخيه_وهو يراه في كل حلم_مصلوبا كفرخ دجاج...
آثرَ الفتى...رغم مرارة الإبتعاد،أن يقضيَ ليله حيث يعملُ نهارا في مضارب أخرى حيث لا يعلمُ عنه الجمع سوى أنّه لا يزال على قيد الحياة....و بينهم و بين أنفسهم ينتظرون أن يُزفَّ لهم خبر هلاكه...أو وقوعه على ركبتيه...
فقد ضاقَ ذرعا بالنّاس جميعا...و بنظراتهم الملعونة...و قد إنعزلَ غرفة مظلمة لا تتّسعُ إلّا لكرسي و طاولة و بعض أوراق عذراء لم تطأ أسطرها كلمات روائيٍّ قبله....
يريد ذلك الفتى....أن يبكي كلّ ليلة...فيأبى كبريائه ذلك....يأبى الكبرياء أن يسيل دمعه ...
و يأبى لتلك الدّموع أن تنهمر....
هو فقط يريد إستجماعها ليوم اللّقاء...
و تحت غطاء فراشه....وهي عادة ليلية توارثتها خليلته( زوجته ) توارثت أن تسمعَ له أنينا خافتا كل ليلة ينادي ليقول :
" لقد إشتدَّ القرعُ على الباب "
كان يرى في منامه..أنّه التّالي....لا لذنب إقترفه...إنّما لأنّه من ذات صلب أخيه...
تهتزّ الزوجة كلّ ليلة من سباتها....ثمّ تعاود مغالبة نفسها....و تحدّثه بآطمئنان:
" لا شيء...عزيزي....إنّه هذيان تعب النّهار "
-----------------
فتراهُ يعاود النّهوض..فيرمي بغطائه جانبا و لا يحملُ معه سوى قلبه المفجوعَ و بقيّة باقيّة من سجائره الرّديئة...
و يتّجهُ صوبَ مكتبه الخشبيّ..يتناولُ قلمه دون أن ينطقَ ببنت شفة.. وقد بلغ من الإضطراب ما يمكّنه من إعدام الحرف و قتل أوراقه المتناثرة في سبيل الفوز بكلمات تنتصرُ له من ذاك العذاب.
كان سؤاله الأبديّ..الذّي ينتظر بعده من يجيبه إجابةً واضحة هو :
" إلى متى؟ "
" أهكذا هي الأوطان ؟"
تذكّر حينها تلك الصبيّة _ التي ملأت قلب أخيه حبّا_ و قد حرقها الشّوق...و أرّقها سهر اللّيالي
و قد إنفصلت هي..كما هو عن جميع الجزر و النّاس و مضاربها...و لم تعد تشارك أترابها في حديث العشق و العشّاق في ثنايا المفترقات...
تلك القصيرةُ القَوام...التّي ما نفد صبرها ساعة و ما عيلت من حرقة الإنتظار...
ظلّت - رغم عبث العابثين - تلاحقُ طيفه أينما حلّ و قد زهدت تفكيرَ أترابها...و ظلّت تعشقه دون سواه...
تذكّرَ حينها..أنّ شوقه مهما بلغ...ما كان ليصير ذرّة واحدة من ذلك الهوى الذّي مَنَتْهُ له حبيبته...
في حين لايزال هو - أخوه المنفيُّ - في غرفتة المظلمة و جدرانها النّدئة و قد أحاطته الوحدة
و الإنفراد من كلّ صوب........
تذكّر أنّ تلك العزيزة على روح أخيه الذّي لا طالما ذكرها له بصوتها و صورتها...كلّما إنبرى يطمئنّ عليه في منفاه..
تلك الأيّام...التّي تداولت عليه - بليلها و نهارها - لثماني فصول كاملة...رأى و كابد الشّمس بحرّها و بردها...و الرّيح بنسيمه و هوجاءه...
كابد المسافات - ذهابا و إيّابا - و لم تثنهِ و لم توجعه إلّا تلك السّفريّات التّي تكون فيها معه من حملتهُ في أحشائها تسعا و أرضعته حليب الأنفة و رفعة الرّأس... ذلك الرّأس الذّي ما إستطاعوا تنكيسه...بعض أنفس تلك القرية الواقعة بين هضبتين.....
- لم تنتهِ -
- حامـــد القصــري – تونس -
بقلمي : حامد القصري – تونس –
___________________________
كانت الشّمس الآفلة....قد تركت غشاءً من نور شاحبٍ على السّهل و المضارب الشّاسعةِ... و لم يبق من زهوتها...إلّا...لمعانٌ يخفق في البعيد على مآذن تلك القريةِ....كأنّه إشارةُ وداعٍ...يعدُ بلقاءٍ قريبٍ....
و كانت ستّةُ رهوط.....لا آنسجام في زيّهم....قد إنفصلوا عن المضارب متّجهين بعيدا.....
بعيدا _ بعيدا عن تلك القرية...التي شيّعت جثمانهم و في قلب أهلها....بعض من حقد...
و قد وقف أقوام من رحم ذات البلدة خارج بيوتهم يشيّعون بأنظارهم...أولئك الغرباء...
__ هكذا أضحوا لديهم __ رغم أنّ أنفاس الستّة أرهاط...قد شربوا من مائها و تمرّغوا في طين تربتها منذ الأزل....
حتّى تقلّص غشاء السّمس الشّاحب...و توارت الأشباح الستّ عن العيان....
لكنّ ذلك الفتى البدوي...قد إنتهى إلى نتيجة حاسمة....بعد طول ذلك الغياب...
--------------
ساخت عينا الفتى في بحر لجّي من إنهزامات المظالم...وهو لازال يذكر وقت المغيب...حين سار الستّةُ بتاريخ ذلك اليوم من الشهر الثاني...
و من بينهم..ذلك الكريم على القلب...
فترجّل بخطًى ثكلى...كمن يرغم نفسه إرغاما...و ودّعه بنظرة آسفة يملؤها حقد مضاعف لبدو بلدته المهجورة...و لازال إلى اليوم ينكر ودّها و يهجرُ أهلها...
و قد تباعدوا بعد الشّمس عن أرضها البور ..
و قد أشار لراحلته بأن تعزَمَ الرّحيلَ و لا تتوقّفَ إلا حين يحتدُّ البصر و تتوارى عن الأنظار مضارب تلك القرية الموحشة و وجوه من فيها... إلا من أمه و أبيه....
و لايزال على غيابه ذلك إلى اليوم.. حتى يجعل الله له من ذلك أمرَ فكّ عقال أخيه...
---------------
شَعُرَ الفتى بأنّ دنياه فراغا بعد رحيل أخيه..
سلوتهُ،و بعض ما تبقّى من ذلك الأمل الذي ينير حياته...ليبنيا معا مستقبلا أحلى...و يُنْسِيَا
العائلة حرارة أيّام الصِّبَى...
وبات مساؤه أشقّ من نهاره.....فلم يستطع أن يركن لحظة في تلك الرّبوع و لا أن يُصْغِيَ إلى كلام العزاء الميّت....بعد أن أوحشت جدران القرية بمن فيها....
و لم يبق في ذاكرته إلّا صورة أخيه_وهو يراه في كل حلم_مصلوبا كفرخ دجاج...
آثرَ الفتى...رغم مرارة الإبتعاد،أن يقضيَ ليله حيث يعملُ نهارا في مضارب أخرى حيث لا يعلمُ عنه الجمع سوى أنّه لا يزال على قيد الحياة....و بينهم و بين أنفسهم ينتظرون أن يُزفَّ لهم خبر هلاكه...أو وقوعه على ركبتيه...
فقد ضاقَ ذرعا بالنّاس جميعا...و بنظراتهم الملعونة...و قد إنعزلَ غرفة مظلمة لا تتّسعُ إلّا لكرسي و طاولة و بعض أوراق عذراء لم تطأ أسطرها كلمات روائيٍّ قبله....
يريد ذلك الفتى....أن يبكي كلّ ليلة...فيأبى كبريائه ذلك....يأبى الكبرياء أن يسيل دمعه ...
و يأبى لتلك الدّموع أن تنهمر....
هو فقط يريد إستجماعها ليوم اللّقاء...
و تحت غطاء فراشه....وهي عادة ليلية توارثتها خليلته( زوجته ) توارثت أن تسمعَ له أنينا خافتا كل ليلة ينادي ليقول :
" لقد إشتدَّ القرعُ على الباب "
كان يرى في منامه..أنّه التّالي....لا لذنب إقترفه...إنّما لأنّه من ذات صلب أخيه...
تهتزّ الزوجة كلّ ليلة من سباتها....ثمّ تعاود مغالبة نفسها....و تحدّثه بآطمئنان:
" لا شيء...عزيزي....إنّه هذيان تعب النّهار "
-----------------
فتراهُ يعاود النّهوض..فيرمي بغطائه جانبا و لا يحملُ معه سوى قلبه المفجوعَ و بقيّة باقيّة من سجائره الرّديئة...
و يتّجهُ صوبَ مكتبه الخشبيّ..يتناولُ قلمه دون أن ينطقَ ببنت شفة.. وقد بلغ من الإضطراب ما يمكّنه من إعدام الحرف و قتل أوراقه المتناثرة في سبيل الفوز بكلمات تنتصرُ له من ذاك العذاب.
كان سؤاله الأبديّ..الذّي ينتظر بعده من يجيبه إجابةً واضحة هو :
" إلى متى؟ "
" أهكذا هي الأوطان ؟"
تذكّر حينها تلك الصبيّة _ التي ملأت قلب أخيه حبّا_ و قد حرقها الشّوق...و أرّقها سهر اللّيالي
و قد إنفصلت هي..كما هو عن جميع الجزر و النّاس و مضاربها...و لم تعد تشارك أترابها في حديث العشق و العشّاق في ثنايا المفترقات...
تلك القصيرةُ القَوام...التّي ما نفد صبرها ساعة و ما عيلت من حرقة الإنتظار...
ظلّت - رغم عبث العابثين - تلاحقُ طيفه أينما حلّ و قد زهدت تفكيرَ أترابها...و ظلّت تعشقه دون سواه...
تذكّرَ حينها..أنّ شوقه مهما بلغ...ما كان ليصير ذرّة واحدة من ذلك الهوى الذّي مَنَتْهُ له حبيبته...
في حين لايزال هو - أخوه المنفيُّ - في غرفتة المظلمة و جدرانها النّدئة و قد أحاطته الوحدة
و الإنفراد من كلّ صوب........
تذكّر أنّ تلك العزيزة على روح أخيه الذّي لا طالما ذكرها له بصوتها و صورتها...كلّما إنبرى يطمئنّ عليه في منفاه..
تلك الأيّام...التّي تداولت عليه - بليلها و نهارها - لثماني فصول كاملة...رأى و كابد الشّمس بحرّها و بردها...و الرّيح بنسيمه و هوجاءه...
كابد المسافات - ذهابا و إيّابا - و لم تثنهِ و لم توجعه إلّا تلك السّفريّات التّي تكون فيها معه من حملتهُ في أحشائها تسعا و أرضعته حليب الأنفة و رفعة الرّأس... ذلك الرّأس الذّي ما إستطاعوا تنكيسه...بعض أنفس تلك القرية الواقعة بين هضبتين.....
- لم تنتهِ -
- حامـــد القصــري – تونس -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق