دمعة على خد الياسمين ..
الجزء الأول...
عاد أحمد إلى غرفته المستأجرة فوق سطح إحدى العمارات الحجرية القديمة في دمشق...بعد نهارٍ رمضانيّ شاقٍ أمضاه متنقلًا بين وزارة الخارجية ومركز الهجرة والجوازات....
كان حلم الإلتحاق بأسرته التي سبقته منذ أكثر من ثلاثة أعوام إلى أوربا يتأرجح أمام ناظريه كمشنقة معلقة في سقف وطنه الجريح .. تنوس ببطء شديد ... وهي تلعن الحرب اللعينة التي جعلت من السفر حلمًا لكل سوري مظلوم..
فتح باب الغرفة بيدين ترتجفان إرهاقًا وقيظًا وسطَ رمضاءٍ أعيت الكبير والصغير.. و أخذ يحوقل بشفتين التصقتا ظمأ على أنغام معدةٍ تتضوع جوعًا ...
و كرغيف خبزٍ خرج لتوّه من تنورٍ متوهجٍ .. رمى جسده المنهك على سريره المبعثر .. بينما صور موظفي الخارجية تمرّ أمام ناظريه كنعوش تواري بداخلها بقايا حلمه في الذهاب إلى أسرته التي يكاد شوقه إليها يضاعف سنواته الستين... بقي ساعتان لأذان المغرب.. ولايزال أحمد ممدّدا في سريره محاولا صمّ أذنيه عن ثرثرة أفكاره المشاكسة.. ثم فجأة تذكر أن عليه أن ينهض ليحضّر شيئا ما ليأكله.. فتح باب الثلاجة محاولا تجنب النظر إلى قارورة الماء المثلّج التي كانت ترمقه بسخرية.. فيمجّ ماتبقّى من لعابه تحسّرا على أطلال شربةٍ ماء باردةٍ تطفئُ لهيبَ قلبه وجوارحه..
أخرج حاجته من الثلاجة.. ثم أغلق الباب بسرعة مثل طفل مذنب يفرّ بعيدا خشية تأنيب والدته على ذنب اقترفه متعمدا..
وريثما ينضح طعامه عاد للاستلقاء مجددا..
كانت شمس دمشق تتوارى خلف الأبنية الشاهقة.. وبعض من النسمات اللطيفة بدأت تتسلل خلسة من بين خيوط الشمس لتهدي إلى جسده جرعة منعشة تدغدغ جبينه.. وتبرّد خصلات شعره المبتلة بالعرق.. وتجلب بعض السكينة إلى قلبه المثقل بالهموم..
ثمة اطمئنان تسلل إلى قلبه حين جاءه إشعار رسالة من تلك المرأة التي أحبّها بصدق حين وجد نفسه وحيدا في عالم اتسم بالخراب والخذلان .. أمسك جواله بسرعة.. فك رمز الشاشة بمهارة معلّمٍ يشاهد وظيفة أحد طلابه النجباء .. بينما إبتسامة الإعجاب تملأ وجهه استبشارا...
إنها هي... تلك المرأة تكاد تكون الحقيقة الوحيدة التي لايعتريها الزيف في حياته .... كانت كلماتها المحملة بجرعات من الصبر تعبّد الطريق أمام روحه التائهة.. وترمّم ما أتلفته سنون القهر في قلبه الكسير..
تلك السيدة كان يجزم أنها أتته من عالم الملائكة.. هربت في غفلة من أفلاطون من فوق أسوار مدينته الفاضلة... سيدة لاتحمل في قلبها سوى الطهر والعفاف..
تمنّى كثيرًا لو عاد به الزمان ثلاثين عامًا إلى الوراء.. كي يلتقيها وهي لاتزال في صفوة شبابها.. وقمة عنفوانها..
وحتى الآن لايزال يراها قلعة منيعة من الصمود والصبر..
كان حديثُها كفيلًا باجتثاث ظمئه.. ومدّه ببرد اليقين..
تنبّه فجأة لرائحة الطعام الناضج تلامس عتبات الشم لديه.. وتزيد في تحريض شهيته للطعام..
قفز برشاقة قبيل أذان المغرب بدقائق مثل غزال دبّت فيه الحيوية والنشاط .. أضاف إلى طاولته الصغيرة.. شراب( السوس ) الذي يعتبر عنصرا أساسيا في مائدة إفطار أهل الشام.. بالإضافة إلى قارورة الماء المتعرّقة نزقًا من فرط برودتها .. والتي قرر أن يقتصّ منها شرّ اقتصاص..
وماهي إلا لحظات.. حتى بدأت مآذن الشام تصدح بأذان المغرب من كل ضواحيها في تمازجٍ صوتيّ مبهرٍ تقشعرّ له الابدان..
فتح أحمد كفيه متضرعًا إلى الله بدعوتين نقيضتين.. ربّاه اجمعني بأولادي في أقرب وقت.. أما الدعوة الثانية فكانت تنسف الأولى وبكل إصرار: ربّاه لاتحرم أذنيّ سماع مآذن الشام!!
تناول أحمد كأس الماء وسالت من عينيه دمعتان عصيتان على التفسير...
للقصة تتمة..
فادية حسون..
16/7/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق