......ذات وسبات.......
تلك اللّحظة وِقفة أفلتت مِنْ قبضة الزّمان ، ما كان في حياته يتوقّع أن يكون طيف إنسان ، أن يكون معلّقا ، مجرّد صورة خرساء يسجنها برواز فاخر بينما طينُه على الأرض ملقى كشيء من الأشياء المهملة ، صورته تلك تحوّلت نظرا ثاقبا يتمعّن الوجوه الملتفّة حول الجسد السّاكن لا يعي الآلام المرسومة على القسمات ولا الدّمع المنهلّ بين حين وحين.
تلك النظرة بدت مذهولة ، تقيس اللّحاف الأبيض يلفّ الطّين وتعود إليه حائرة متسائلة : هلْ أنا بهذا الطّول؟ كنت دائما أقول إنّني متوسّط القدّ فماذا حدث؟ هلْ تحلّل الطّين فتمدّد ؟ وتلك الأطراف إلى ما آل أمرها؟ هلعٌ يأكل الطّيف فيتململ داخل البرواز، يا لهذا السّجن أُرْمَى فيه أنا النّورس، عاشق الحرّيّة لا يطيب لي مقام إلّا في حضن الأفق الفسيح.
حملق في ابنيه وركّز على الكبرى تلك الّتي كانت دائما ترسم أحلامها بين يديه بلْ على ركبته كلّما أغمضتْ جفنيها وهو يُداعب شعرها ، معها كان يُجدّف في يمّ الغد ويستحثّ الأيّام ليصل بها إلى جزيرة الأماني ، هناك على جبينها يطبع قبلة الانتصار، معكِ بُنيّتي كُنتُ أختزل المسافات لألج عالمكِ الوردي ، لأسعد بكِ تُنصّبين أميرة على عرش النّجاح.، تُرى كيف ستكون أيّامك المقبلة؟ كيف يتسنّى لكِ التّحليق وقد قُطع منك الجناح؟
ترقرقتْ في عينه دمعة حاول أن يمسحها لكنّه لمْ يجد يدا تسعفه. أنا هنا مُعوّق ، منقوص ، كلّ الفصول فرّتْ منّي ، وحدكَ أنتَ أيّها الخريفُ استبحتَ حرمتي، تلازمني ، تنثرُ حولي ظلالكَ الصّفراء تبتلع كلّ قدراتي ، باحتي قاع صفصف وصوتي يُلجمه صمت جليديّ ، أنا الطّين المغرور كشفني الحتْم وساقني وحيدا كما جئتُ ، مفردٌ والجمع حولي ، مكبّل لا قدرة لي على شيء عدا هذا الثّبات المميت ، المميت، أنا الميّتُ أستجدي رحمة حياة مؤجّلة علّني أمسح مِنْ جديد على شعر ابني الثاوي عند قدميْ الطّين يرجو التفاتة.
داخل البرواز تتلجلج في فَمِ الصّمت الكلمات ، تحاول الانفلات فيقذفها جدار صدّ خفيّ لترتطم على صدر اللّهفة حمما وبراكين، يا للسُّبات يلوّح، يسخر ، يُشفق وأنتَ بين يديه لعبة أيّها المسكين.
تونس....29 / 8 / 2018
بقلمي...جميلة بلطي عطوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق